العروبة- من رومانسية الوحدة إلى شعارات التكسّب ومرحلة التخلي.
المؤلف: محمد الساعد08.24.2025

من بين أشد النزاعات العربية حدةً كان الخلاف المرير الذي نشب بين النظامين البعثيين في سوريا والعراق. على الرغم من تشابههما في تبني عقيدة البعث السياسية، وتأكيدهما على شعارات الوحدة العربية الطموحة، تلك التي تمتد "من بغداد إلى تطوان"، حتى شاعت عنهما مقولة مفادها: "آمنت بالبعث لا شريك له، وبالعروبة ديناً ما له ثان"، والتي تجسد قمة التطرف القومي العربي، إلا أن هذه الشعارات الرنانة سرعان ما تلاشت وتهاوت عند أول اختبار حقيقي بين هذين الشقيقين اللدودين اللذين خرجا من رحم البعث، لتصبح مجرد كلمات جوفاء ترددها إذاعتا بغداد ودمشق، بينما استمر النظامان في التآمر والدسائس ضد بعضهما البعض لأكثر من ثلاثة عقود.
لقد استغل الكثير من الانتهازيين فكرة "القومية العربية" لتحقيق مكاسب شخصية، واستخدمت كذريعة للاتهامات والتدخلات السافرة في الشؤون الداخلية للدول العربية، بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى التدخل العسكري المباشر، وكل ذلك تحت ستار تحقيق الوحدة العربية المنشودة، تلك الوحدة التي استحال تحقيقها في ظل المزايدات الرخيصة، والتنمر البغيض، والاستعلاء الفارغ.
لقد منيت الوحدة العربية بإخفاقات متكررة ومؤلمة في العديد من التجارب، منها تجربة الوحدة بين سوريا ومصر في الفترة من 1958 إلى 1961، وتجربة الوحدة بين اليمن الجنوبي والشمالي عام 1990، والتي أدت إلى حرب أهلية دامية في عام 1994، وكذلك الوحدة الهشة بين تونس وليبيا تحت مسمى "الجمهورية العربية الإسلامية" عام 1974. جميع هذه المشاريع الوحدوية باءت بالفشل الذريع، ومع ذلك ظلت القومية العربية عصا غليظة يستخدمها كل من يواجه أزمة اقتصادية أو سياسية خانقة، فيلوح بقضية فلسطين العادلة، ويتذرع بالقومية العربية لتحقيق مآربه الخاصة.
الكثيرون يتناسون، تحت وطأة الضجيج الإعلامي الهائل الذي يروج له حديثو النعمة من دعاة العروبة الزائفين، أن فكرة القومية العربية ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، وأنها أقدم من الدولة العربية نفسها، وليست وليدة صحيفة تشرين، ولا تلفزيون بغداد، ولا إذاعة صوت العرب، ولا كتاب القذافي الأخضر المثير للجدل، ولم يخترعها ميشيل عفلق، ولا جورج حبش، ولا أبو نضال، ولا جميع أولئك الذين استغلوا هذه الفكرة النبيلة لتحقيق أجنداتهم الخبيثة.
بل انطلقت شرارة القومية العربية على أيدي فرسان الجزيرة العربية من بني أمية، الذين أسسوا أول دولة عربية خالصة، حكمت نصف العالم المعروف آنذاك لمدة قرن من الزمان تقريباً، وظلت تعيش على ذلك الإرث المجيد لقرنين آخرين تحت راية الخلافة العباسية. ومع تآكل فكرة الدولة العربية على أيدي الشعوبيين الذين تسللوا إلى داخل بنية الدولة العربية، تراجع نفوذ الحكم العربي، وانتهى تماماً في بغداد ودمشق والأندلس، وأصبح يحكم أجزاء واسعة من العالم العربي "السلاجقة والأيوبيون والمماليك"، مع التذكير بأن معظم أجزاء الجزيرة العربية ظلت بمنأى عن حكم الأقليات غير العربية لها، وكأن القدر شاء لها أن تبقى الحصن الأخير للإنسان العربي، ولغته، وثقافته الأصيلة حتى يومنا هذا.
من الأهمية بمكان التذكير بأن انبعاث حركات القومية العربية الحديثة قد بدأ في مطلع القرن العشرين، وحتى قبل الدعوة الصريحة لها من قبل الجمهوريات ومثقفيها ووسائل إعلامها. وساهمت تلك الحركات بشكل كبير في إعادة إحياء القومية العربية وبعثها من جديد، وكان على رأس المساهمين "الجمعية القحطانية" التي تأسست كمنظمة سياسية عربية سرية في إسطنبول عام 1909، بسبب صعود القوميين الأتراك المتطرفين. هدفت الجمعية إلى تعزيز الفكرة العربية الأصيلة، وتأمين استقلال ذاتي للولايات العربية داخل الدولة العثمانية المتهالكة.
ثم تبع ذلك ظهور جمعيات عربية أخرى تناصر نفس الفكرة النبيلة، وتناهض القومية التركية المتعصبة، وتدافع بشراسة عن حق العرب في لغتهم الأم، وثقافتهم الغنية، وحكم بلادهم بأنفسهم. وكانت جمعية "العربية الفتاة" من أبرز هذه الجمعيات، والتي تأسست في باريس عام 1911، بهدف الدفاع عن حقوق العرب المشروعة، ورفع مستواهم الثقافي والاجتماعي والسياسي، ومواجهة سياسات التتريك القمعية التي طبقتها بعنف جمعية الاتحاد والترقي الحاكمة في آخر أيام الدولة العثمانية المريضة، وكل ذلك حدث في وقت مبكر من التاريخ السياسي العربي الحديث.
الآن يبدو الوضع مختلفاً تماماً، فبعض مدعي العروبة الكاذبين أصبحوا أكثر ميلاً نحو الدولة القُطْريّة الضيقة، وأكثر انعزالاً عن محيطهم العربي الواسع، مبتعدين عن عالم عربي لطالما اهتز بالصراعات والضجيج تحت مسميات وقضايا عدة. ولكن بعد أن كسدت تلك البضاعة الرخيصة، أصبح التخلي عنها شعاراً جديداً يرفعه بعض المثقفين والمتنمرين الذين طالما أزعجوا رؤوس باقي العرب بادعاءاتهم الفارغة بالتفوق الثقافي، ذلك التفوق المشكوك فيه، والذي لا يزال يقتات من لسان وحرف اللغة العربية الفصحى، وإرثها العظيم المنقول من الجزيرة العربية. فهل التخلي عن العروبة يعني بالضرورة التخلي عن الحرف العربي، واللسان العربي؟ لننتظر ونرى ما ستسفر عنه الأيام القادمة.. فالتخلي الحقيقي لا ينفصل عن ذلك أبداً.
يبدو اليوم أن العروبة كفكرة رومانسية جذابة تبناها مثقفون وسياسيون منذ العام 1900، وحتى السابع من أكتوبر المشؤوم، أصبحت ترفاً لا لزوم له في ظل تغير المصالح المتقلبة. وستكون العروبة هي الأخرى إحدى ضحايا السابع من أكتوبر، الذي تحول إلى كرة ملتهبة من النار يصعب إيقاف تأثيراتها المدمرة، ولكنها بلا شك غيرت وجه العالم إلى الأبد، وكشفت بوضوح تام عن أن القومية العربية لم تكن سوى شعارات براقة للتكسب الرخيص، وعندما انتهى زمنها وولى، بدأ الانتقال المحموم نحو شعارات أخرى زائفة.
لقد استغل الكثير من الانتهازيين فكرة "القومية العربية" لتحقيق مكاسب شخصية، واستخدمت كذريعة للاتهامات والتدخلات السافرة في الشؤون الداخلية للدول العربية، بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى التدخل العسكري المباشر، وكل ذلك تحت ستار تحقيق الوحدة العربية المنشودة، تلك الوحدة التي استحال تحقيقها في ظل المزايدات الرخيصة، والتنمر البغيض، والاستعلاء الفارغ.
لقد منيت الوحدة العربية بإخفاقات متكررة ومؤلمة في العديد من التجارب، منها تجربة الوحدة بين سوريا ومصر في الفترة من 1958 إلى 1961، وتجربة الوحدة بين اليمن الجنوبي والشمالي عام 1990، والتي أدت إلى حرب أهلية دامية في عام 1994، وكذلك الوحدة الهشة بين تونس وليبيا تحت مسمى "الجمهورية العربية الإسلامية" عام 1974. جميع هذه المشاريع الوحدوية باءت بالفشل الذريع، ومع ذلك ظلت القومية العربية عصا غليظة يستخدمها كل من يواجه أزمة اقتصادية أو سياسية خانقة، فيلوح بقضية فلسطين العادلة، ويتذرع بالقومية العربية لتحقيق مآربه الخاصة.
الكثيرون يتناسون، تحت وطأة الضجيج الإعلامي الهائل الذي يروج له حديثو النعمة من دعاة العروبة الزائفين، أن فكرة القومية العربية ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، وأنها أقدم من الدولة العربية نفسها، وليست وليدة صحيفة تشرين، ولا تلفزيون بغداد، ولا إذاعة صوت العرب، ولا كتاب القذافي الأخضر المثير للجدل، ولم يخترعها ميشيل عفلق، ولا جورج حبش، ولا أبو نضال، ولا جميع أولئك الذين استغلوا هذه الفكرة النبيلة لتحقيق أجنداتهم الخبيثة.
بل انطلقت شرارة القومية العربية على أيدي فرسان الجزيرة العربية من بني أمية، الذين أسسوا أول دولة عربية خالصة، حكمت نصف العالم المعروف آنذاك لمدة قرن من الزمان تقريباً، وظلت تعيش على ذلك الإرث المجيد لقرنين آخرين تحت راية الخلافة العباسية. ومع تآكل فكرة الدولة العربية على أيدي الشعوبيين الذين تسللوا إلى داخل بنية الدولة العربية، تراجع نفوذ الحكم العربي، وانتهى تماماً في بغداد ودمشق والأندلس، وأصبح يحكم أجزاء واسعة من العالم العربي "السلاجقة والأيوبيون والمماليك"، مع التذكير بأن معظم أجزاء الجزيرة العربية ظلت بمنأى عن حكم الأقليات غير العربية لها، وكأن القدر شاء لها أن تبقى الحصن الأخير للإنسان العربي، ولغته، وثقافته الأصيلة حتى يومنا هذا.
من الأهمية بمكان التذكير بأن انبعاث حركات القومية العربية الحديثة قد بدأ في مطلع القرن العشرين، وحتى قبل الدعوة الصريحة لها من قبل الجمهوريات ومثقفيها ووسائل إعلامها. وساهمت تلك الحركات بشكل كبير في إعادة إحياء القومية العربية وبعثها من جديد، وكان على رأس المساهمين "الجمعية القحطانية" التي تأسست كمنظمة سياسية عربية سرية في إسطنبول عام 1909، بسبب صعود القوميين الأتراك المتطرفين. هدفت الجمعية إلى تعزيز الفكرة العربية الأصيلة، وتأمين استقلال ذاتي للولايات العربية داخل الدولة العثمانية المتهالكة.
ثم تبع ذلك ظهور جمعيات عربية أخرى تناصر نفس الفكرة النبيلة، وتناهض القومية التركية المتعصبة، وتدافع بشراسة عن حق العرب في لغتهم الأم، وثقافتهم الغنية، وحكم بلادهم بأنفسهم. وكانت جمعية "العربية الفتاة" من أبرز هذه الجمعيات، والتي تأسست في باريس عام 1911، بهدف الدفاع عن حقوق العرب المشروعة، ورفع مستواهم الثقافي والاجتماعي والسياسي، ومواجهة سياسات التتريك القمعية التي طبقتها بعنف جمعية الاتحاد والترقي الحاكمة في آخر أيام الدولة العثمانية المريضة، وكل ذلك حدث في وقت مبكر من التاريخ السياسي العربي الحديث.
الآن يبدو الوضع مختلفاً تماماً، فبعض مدعي العروبة الكاذبين أصبحوا أكثر ميلاً نحو الدولة القُطْريّة الضيقة، وأكثر انعزالاً عن محيطهم العربي الواسع، مبتعدين عن عالم عربي لطالما اهتز بالصراعات والضجيج تحت مسميات وقضايا عدة. ولكن بعد أن كسدت تلك البضاعة الرخيصة، أصبح التخلي عنها شعاراً جديداً يرفعه بعض المثقفين والمتنمرين الذين طالما أزعجوا رؤوس باقي العرب بادعاءاتهم الفارغة بالتفوق الثقافي، ذلك التفوق المشكوك فيه، والذي لا يزال يقتات من لسان وحرف اللغة العربية الفصحى، وإرثها العظيم المنقول من الجزيرة العربية. فهل التخلي عن العروبة يعني بالضرورة التخلي عن الحرف العربي، واللسان العربي؟ لننتظر ونرى ما ستسفر عنه الأيام القادمة.. فالتخلي الحقيقي لا ينفصل عن ذلك أبداً.
يبدو اليوم أن العروبة كفكرة رومانسية جذابة تبناها مثقفون وسياسيون منذ العام 1900، وحتى السابع من أكتوبر المشؤوم، أصبحت ترفاً لا لزوم له في ظل تغير المصالح المتقلبة. وستكون العروبة هي الأخرى إحدى ضحايا السابع من أكتوبر، الذي تحول إلى كرة ملتهبة من النار يصعب إيقاف تأثيراتها المدمرة، ولكنها بلا شك غيرت وجه العالم إلى الأبد، وكشفت بوضوح تام عن أن القومية العربية لم تكن سوى شعارات براقة للتكسب الرخيص، وعندما انتهى زمنها وولى، بدأ الانتقال المحموم نحو شعارات أخرى زائفة.